فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ}.
خصّ إسماعيل بالذكر هنا تنبيها على جدارته بالاستقلال بالذكر عقب ذكر إبراهيم وابنه إسحاق، لأن إسماعيل صار جدّ أمة مستقلة قبل أن يصير يعقوب جدّ أمة، ولأن إسماعيل هو الابن البكر لإبراهيم وشريكُه في بناء الكعبة.
وتقدم ذكر إسماعيل عند قوله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} في سورة البقرة (127).
وخصه بوصف صدق الوعد لأنه اشتهر به وتركه خُلقًا في ذريته.
وأعظم وعْدٍ صدقَه وعدُه إياه إبراهيم بأن يجده صابرًا على الذبح فقال: {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} [الصافات: 102].
وجعله الله نبيئًا ورسولًا إلى قومه، وهم يومئذ لا يعدون أهله أمه وبنيه وأصهاره من جُرهم.
فلذلك قال الله تعالى: {وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة} ثم إن أمة العرب نشأت من ذريته فهم أهله أيضًا، وقد كان من شريعته الصلاة والزكاة وشؤون الحنيفية ملة أبيه إبراهيم.
ورضى الله عنه: إنعامه عليه نعمًا كثيرة، إذ باركه وأنمى نسله وجعل أشرف الأنبياء من ذريته، وجعل الشريعة العظمى على لسان رسول من ذريته.
وتقدم اختلاف القراء في قراءة نبيئًا بالهمز أو بالياء المشددة.
وتقدم توجيه الجمع بين وصف رسول ونبيء عند ذكر موسى عليه السلام آنفًا. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)}.
قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد} [مريم: 54] ما الميزة هنا وكل الرسل كانوا صادقي الوعد؟ قالوا: لأن هناك صفة تبرز في شخص ويتميز بها، وإن كانت موجودة في غيره، فالذي يصدُق في وعد أعطاه، أو كلمة قالها صدق في أمر يملكه ويتعلق به.
أما إسماعيل عليه السلام فكان صادق الوعد في أمر حياة أو موت، أمر يتعلق بنفسه، حين قال لأبيه: {يا أبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَاءَ الله مِنَ الصابرين} [الصافات: 102].
وليت الأمر جاء مباشرة، إنما رآه غيره، وربما كانت المسألة أيسَر لو أن الولد هو الذي رأى أباه يذبحه، لكنها رُؤْيا رآها الأب، والرؤيا لا يثبت بها حكم إلا عند الأنبياء. فكان إسماعيل دقيقًا في إجابته حينما أخبره أبوه كأنه يأخذ رأيه في هذا الأمر: {إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى} [الصافات: 102].
فخاف إبراهيم عليه السلام أن يُقبل على ذَبْح ولده دون أن يخبره حتى لا تأتي عليه فترة يمتلىء غيظًا من أبيه إذا كان لا يعرف السبب، فأحبَّ إبراهيم أن يكون استسلامُ ولده للذبح قُرْبَى منه لله، له أجْرُها وثوابها.
قال إسماعيل عليه السلام لأبيه إبراهيم: {يا أبت افعل مَا تُؤمَرُ} [الصافات: 102].
والوعد الذي صدق فيه قوله: {ستجدني إِن شَاءَ الله مِنَ الصابرين} [الصافات: 102] وصدق إسماعيل في وعده، واستسلم للذبح، ولم يتردد ولم يتراجع؛ لذلك استحق أنْ يميزه ربه بهذه الصفة {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد} [مريم: 54].
فلما رأى الحق تبارك وتعالى استسلام إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لقضاء الله رفع عنه قضاءه وناداه: {وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 104107] فكانت نتيجة الصبر على هذا الابتلاء أنْ فدى الله الذبيح، وخلَّصه من الذبح، ثم أكرم إبراهيم فوق الولد بولد آخر: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ} [الأنعام: 84].
وهذه لقطة قرآنية تُعلِّمنا أن المسلم إذا استسلم لقضاء الله، ورَضِي بقدره فسوف يجني ثمار هذا الاستسلام، والذي يطيل أمد القضاء على الناس أنهم لا يرضون به، والحق تبارك وتعالى لا يجبره أحد، فالقضاء نافذ نافذ، رضيتَ به أم لم تَرْضَ.
وحين تسلم لله وترضى بقضائه يرفعه عنك، أو يُبيّن لك وجه الخير فيه. إذن: عليك أن تحترم القدر وترضى به؛ لأنه من ربك الخالق الحكيم، ولا يُرفع قضاء الله عن الخلق حتى يرضوا به.
وكثيرًا ما نرى اعتراض الناس على قضاء الله خاصة عند موت الطفل الصغير، فنراهم يُكثِرون عليه البكاء والعويل، يقول أحدهم: إنه لم يتمتع بشبابه.
ونعجب من مثل هذه الجهالات: أيّ شباب؟ وأيَّة متعة هذه؟ وقد فارق في صِغَره دنيا باطلة زائلة، ومتعة موقوتة إلى دار باقية ومتعة دائمة؟ كيف وقد فارق العيش مع المخلوق، وذهب إلى رحاب الخالق سبحانه؟
إنه في نعيم لو عرفتَه لتمنيتَ أن تكون مكانه، ويكفي أن هؤلاء الأطفال لا يُسألون ولا يُحاسبون، وليس لهم مسكن خاص في الجنة؛ لأنهم طلقاء فيها يمرحون كما يشاؤون؛ لذلك يسمونهم (دعاميص الجنة).
وآخر يعترض لأن زميله في العمل رُقِّي حتى صار رئيسًا له، فإذا به يحقد عليه ويحقره، وتشتعل نفسه عليه غضبًا، وكان عليه أن يتساءل قبل هذا كله: أأخذ زميله شيئًا من مُلْك الله دون قضائه وقدره، إذن: فعليك إذا لم تحترم هذا الزميل أن تحترم قدر الله فيه، فما أخذَ شيئًا غصبًا عن الله. لذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اسمعوا وأطيعوا، ولو وُلِّى عليكم عبد حبشيّ، كأنّ رأسَه زبيبة».
ثم يقول الحق سبحانه: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة} أي: من خصال إسماعيل العظيمة التي ذكرها الله تعالى له: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكاة} [مريم: 55] أي: زوجته. والحق تبارك وتعالى لا يهتم بخَصْلة ولا يذكرها إلا إنْ كانت كبيرة عنده، تساوي كونه صادقَ الوعد وكونه رسولًا ونبيًا، فمَنْ أراد أنْ يتصفَ بصفة من صفات النبوة، فعليه أنْ يأمرَ أهله بالصلاة والزكاة.
لكن، لماذا اختص أهله بالذات؟ اختص أهله لأنهم البيئة المباشرة التي إنْ صَلُحتْ للرجل صَلُحَ له بيته، وصَلُحَتْ له ذريته، إذا كان الرجل يلفت أهله إلى ذكر الله والصلاة خمس مرات في اليوم والليلة فإنه بذلك يسدُّ الطريق على الشيطان، فليس له مجال في بيت يصلي أهله الخمس صلوات.
لذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «رحم الله امرأ استيقظ من الليل، فصلَّى ركعتين ثم أيقظ أهله فإن امتنعتْ نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلَّتْ ركعتين، ثم أيقظتْ زوجها، فإنِ امتنع نضحتْ في وجهه الماء».
إذن: فكل رجل وكل امراة يستطيع في كل ليلة أن يكون رسولًا لأهله ولبيئته يقوم فيها بمهمة الرسول؛ لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والرسل، فليس بعد تشريعه تشريع، وليس بعد كتابه كتاب؛ لأن أمته ستحمل رسالته من بعده، وكل مؤمن منهم يعلم من الإسلام حُكْمًا فهو خليفة لرسول الله في تبليغه.
كما قال تعالى: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] فالرسول يشهد أنه بلَّغكم، وعليكم أنْ تشهدوا أنكم بلّغتُم الناس، وما دُمْتم بلَّغتم الناس مَنْطِقًا ولفظًا فلابد أنْ يكون سلوكًا أيضًا، لأن لكم في رسول الله أسوة حسنة.
ودائمًا ما يقرن الحق تبارك وتعالى بين الصلاة والزكاة، والصلاة تأخذ بعض الوقت، والزكاة تأخذ المال الذي هو فرع العمل الذي هو فرع الوقت، فإنْ كانت الزكاة تأخذ نتيجة الوقت، فالصلاة تأخذ الوقت نفسه. إذن: ففي الصلاة زكاة أبلغ من الزكاة.
وإنْ كان في الزكاة نماء المال وبركته وإنْ كانت في ظاهرها نقصًا ففي الصلاة نماء الوقت وبركته، فإياك أنْ تقول: أنا مشغول، ولا أجد وقتًا للصلاة؛ لأن الدقائق التي ستصلي فيها فَرْض ربك هي التي ستُشِيع البركة في وقتك كله.
كما أنك حين تقف بين يَدَيْ ربك في الصلاة تأخذ شحنة إيمانية نوارنية تُعينك على أداء مهمتك في الحياة، وتعرض نفسك على ربِّك وخالقك وصانعك، ولن تُعدم خيرًا ينالك من هذا اللقاء.
ولك أنْ تتصوّر صنعةً تُعرَض على صانعها خمس مرات كل يوم، هل يصيبها عُطْل أو عَطَب؟! وإنْ كان المهندس الصانع يعالج بأشياء مادية فلأنه حِسِّيٌّ مشهود، أما الخالق سبحانه فهو غَيْب يصلحك من حيث لا تدري.
وإنْ كان إسماعيل عليه السلام يأمر أهله بالصلاة والزكاة فهو حريص عليها من باب أَوْلَى.
وقوله تعالى: {وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55] أي: رضي الله عنه، ليس لخصال الخير التي وصفه بها، بل من بدايته، فقد رضي عنه فاختاره رسولًا ونبيًا. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)}.
أخرج الحاكم من طريق سمرة عن كعب قال: كان إسماعيل نبي الله الذي سماه صادق الوعد، وكان رجلًا فيه حدة مجاهدًا أعداء الله، ويعطيه الله النصر عليهم، والظفر، وكان شديد الحرب على الكفار، لا يخاف في الله لومة لائم، صغير الرأس، غليظ العنق، طويل اليدين والرجلين، يضرب بيديه ركبتيه وهو قائم، صغير العينين، طويل الأنف، عريض الكتف، طويل الأصابع، بارز الخلق، قوي شديد عنيف على الكفار، وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، وكانت زكاته القربات إلى الله من أموالهم، وكان لا يعد أحدًا شيئًا إلا أنجزه، فسماه الله {صادق الوعد}.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج {إنه كان صادق الوعد} قال: لم يعد ربه عدة قط إلا أنفذها.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سفيان الثوري قال: بلغني أن إسماعيل وصاحبًا له أتيا قرية، فقال له صاحبه: إما أن أجلس وتدخل فتشتري طعامًا زادنا، وإما أن أدخل فاكفيك ذلك، فقال له إسماعيل: بل ادخل أنت وأنا أجلس أنتظرك، فدخل ثم نسي فخرج، فأقام مكانه حتى كان الحول من ذلك اليوم، فمر به الرجل، فقال له: أنت هاهنا حتى الساعة؟ قال: قلت لك لا أبرح حتى تجيء، فقال تعالى: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد}.
وأخرج ابن جرير، عن سهل بن سعد قال: أن إسماعيل عليه السلام وعد رجلًا أن يأتيه، فجاء ونسي الرجل، فظل به إسماعيل، وبات حتى جاء الرجل من الغد، فقال: ما برحت من ههنا؟ قال: لا، قال: إني نسيت، قال: لم أكن لأبرح حتى تأتيني. ولذلك {كان صادق الوعد}.
وأخرج مسلم عن واثلة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل كنانة».
وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد الخلائق يوم القيامة في اثني عشر نبيًا منهم إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب».
وأخرج الحاكم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: أول من نطق بالعربية ووضع الكتاب على لفظه ومنطقه ثم جعله كتابًا واحدًا- مثل بسم الله الرحمن الرحيم- الوصول- حتى فرق بينه ولده إسماعيل.
وأخرج ابن سعد، عن عقبة بن بشير، أنه سأل محمد بن علي من أول من تكلم بالعربية؟ قال: إسماعيل بن إبراهيم، وهو ابن ثلاثة عشرة سنة. قلت: فما كان كلام الناس قبل ذلك؟ قال العبرانية.
وأخرج ابن سعد، عن الواقدي، عن غير واحد من أهل العلم، أن إسماعيل ألهم من يوم ولد لسان العرب، وولد إبراهيم أجمعون على لسان إبراهيم.
وأخرج ابن سعد، عن علي بن رباح اللخمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل العرب من ولد إسماعيل».
وأخرج ابن سعد، عن إسحق بن عبد الله بن أبي طلحة قال: قبر أم إسماعيل تحت الميزاب، بين الركن والبيت. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)}.
قوله تعالى: {مَرْضِيًّا}: العامَّةُ على قراءته كذلك معتلًا وأصلُه مَرْضُوْوٌ، بواوين: الأولى زائدةٌ كهي في مَضْروب، والثانية لام الكلمة لأنه من الرِّضْوان، فأُعِلَّ بقلب الواو ياءً وأُدْغِمَتْ الأخيرة ياءً، واجتمعت الياءُ والواو فَقُلبت الواوُ ياءً وأُدْغمت ويجوز النطقُ بالأصلِ. وقد تقدَّم تحريرُ هذا. وقرأ ابن أبي عبلة بهذا الأصلِ وهو الأكثرُ، ومن الإِعلالِ قولُه:
لقد عَلِمَتْ عِرْسِي مُلَيْكَةُ أنني ** أنا المَرْءُ مَعْدِيًَّا عليه وعادِيا

وقالوا: أَرْضٌ مَسْنِيَّةٌ ومَسْنُوَّة، أي: مُسْقاة بالسَّانية. اهـ.